فصل: الفصل الرابع: في صفة الغسل‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **


 الفصل الثاني فيمن يجب غسله من الموتى‏.‏

-وأما الأموات الذين يجب غسلهم فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار‏.‏ واختلفوا في غسل الشهيد وفي الصلاة عليه وفي غسل المشرك‏.‏ فأما الشهيد‏:‏ أعني الذي قتله في المعترك المشركون، فإن الجمهور على ترك غسله لما روي ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم‏"‏ وكان الحسن وسعيد ابن المسيب يقولان‏:‏ يغسل كل مسلم فإن كل ميت يجنب، ولعلهم كانوا يرون إن ما فعل بقتلى أحد كان لموضع الضرورة‏:‏ أعني المشقة في غسلهم، وقال بقولهم من فقهاء الأمصار عبيد الله بن الحسن العنبري‏.‏ وسئل أبو عمر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد فقال‏:‏ قد غسل عمر وكفن وحنط وصلى عليه، وكان شهيدا يرحمه الله‏.‏ واختلف الذين اتفقوا على أن الشهيد في حرب المشركين لا يغسل في الشهداء من قتل اللصوص أو غير أهل الشرك‏.‏ فقال الأوزاعي وأحمد وجماعة حكمهم حكم من قتله أهل الشرك‏.‏ وقال مالك والشافعي‏:‏ يغسل‏.‏ وسبب اختلافهم هو هل الموجب لرفع حكم الغسل هي الشهادة مطلقا أو الشهادة على أيدي الكفار، فمن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة مطلقا قال‏:‏ لا يغسل كل من نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام أنه شهيد ممن قتل‏.‏ ومن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة من الكفار قصر ذلك عليهم‏.‏ وأما غسل المسلم الكافر فكان مالك يقول‏:‏ لا يغسل المسلم والده الكافر ولا يقبره، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لابأس بغسل المسلم قرابته من المشركين ودفنهم، وبه قال أبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه قال أبو بكر بن المنذر‏:‏ ليس في غسل الميت المشرك سنة تتبع، وقد روى ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏ أمر بغسل عمه لما مات‏"‏‏.‏ وسبب الخلاف هل الغسل من باب العبادة، أو من باب النظافة‏؟‏ فإن كانت عبادة لم يجز غسل الكافر، وإن كانت نظافة جاز غسله‏.‏

 الفصل الثالث فيمن يجوز أن يغسل الميت‏.‏

-وأما من يجوز أن يغسل الميت، فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال والنساء يغسلون النساء‏.‏ واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال، أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال‏:‏ فقال قوم‏:‏ يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب‏.‏ وقال قوم‏:‏ ييمم كل واحد منهما صاحبه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه، وبه قال الليث بن سعد، بل يدفن من غير غسل‏.‏ وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو الأمر على النهي، وذلك أن الغسل مأمور به، ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه‏.‏ فمن غلب النهي تغليبا مطلقا، أعني لم يقس الميت على الحي في كون الطهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال‏:‏ لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه‏.‏ ومن غلب الأمر على النهي قال يغسل كل واحد منهما صاحبه‏:‏ أعني غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا‏.‏ ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض، وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكل الصنفين، ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة، وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي، فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم، وهو تشبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور‏.‏ فأما مالك فاختلف في قوله هذه المسألة فمرة قال‏:‏ ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم، ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال‏:‏ أشهرها أنه يغسل كل واحد منهما على الثياب‏.‏ والثاني أنه لا يغسل أحدهما صاحبه لكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم‏.‏ والثالث الفرق بين الرجال والنساء‏:‏ أعني تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة‏.‏ فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء‏.‏ وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي‏.‏ وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال، بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء‏.‏ وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها‏.‏ واختلفوا في جواز غسله إياها، فالجمهور على جواز ذلك؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز غسل الرجل لزوجته‏.‏ وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق، فمن شبهه بالطلاق قال‏:‏ لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت، ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال‏:‏ إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت، وإنما دعا أبا حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى، كالحال فيها إذا طلقت، وهذا فيه بعد، فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت، ولذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقوله، وإن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى، فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة، وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها، واختلفوا في الرجعية، فروي عن مالك أنها تغسله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا وهو قياس قول مالك، لأنه ليس يجوز عنده أن يراها، وبه قال الشافعي‏.‏ وسبب اختلافهم هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها‏؟‏ وأما حكم الغاسل فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه، فقال قوم‏:‏ من غسل ميتا وجب عليه الغسل‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا غسل عليه‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء، وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ‏"‏ خرجه أبو داود‏.‏ وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، وحديث أسماء في هذا صحيح‏.‏ وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح، لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له، فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء، وسؤال أسماء والله أعلم يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول، ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة‏.‏

 الفصل الرابع في صفة الغسل‏.‏ وفي هذا الفصل مسائل‏:‏

-‏(‏إحداها‏)‏  هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل‏؟‏ أم يغسل في قميصه‏؟‏ اختلفوا في ذلك، فقال مالك‏:‏ إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي‏:‏ يغسل في قميصه‏.‏ وسبب اختلافهم تردد غسله عليه الصلاة والسلام في قميصه بين أن يكون خاصا به وبين أن يكون سنة فمن رأى أنه خاص به أنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال‏:‏ يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة‏.‏ ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي، لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم‏:‏ لا تنزعوا القميص، وقد ألقي عليهم النوم قال‏:‏ الأفضل أن يغسل الميت في قميصه‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ قال أبو حنيفة‏:‏ لا يوضأ الميت‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يوضأ‏.‏ وقال مالك‏:‏ إن وضئ فحسن‏.‏ وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر‏.‏ وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت، لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة، وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله‏.‏ وظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غسل ابنته ‏"‏ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها‏"‏ وهذه الزيادة ثابتة خرجها البخاري ومسلم، ولذلك يجب أن تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقا، لأن المقيد يقضي على المطلق، إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس، ويشبه أيضا أن يكون من أسباب الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقا من غير ذكر وضوء فيها، فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له في هذا الموضع‏.‏ والشافعي جرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد‏.‏

-‏(‏ المسألة الثالثة‏)‏ اختلفوا في التوقيت في الغسل، فمنهم من أوجبه، ومنهم من استحسنه واستحبه‏.‏ والذين أوجبوا التوقيت منهم من أوجب الوتر، أي وتر كان، وبه قال ابن سيرين‏.‏ ومنهم من أوجب الثلاثة فقط، وهو أبو حنيفة‏.‏ ومنهم من حد أقل الوتر في ذلك فقال‏:‏ لا ينقص عن الثلاثه ولم يحد الأكثر وهو الشافعي‏.‏ ومنهم من حد الأكثر في ذلك فقال‏:‏ لا يتجاوز به السبعة، وهو أحمد بن حنبل‏.‏ وممن قال باستحباب الوتر ولم يحد فيه حدا مالك بن أنس وأصحابه‏.‏ وسبب الخلاف بين من شرط التوقيت ومن لم يشترطه بل استحبه معارضة القياس للأثر، وذلك أن ظاهر حديث أم عطية يقتضي التوقيت، لأن فيه ‏"‏اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن‏"‏ وفي بعض رواياته ‏"‏أو سبعا‏"‏‏.‏ وأما قياس الميت على الحي في الطهارة فيقتضي أن لا توقيت فيها كما ليس في طهارة الحي توقيت، فمن رجح الأثر على النظر قال بالتوقيت‏.‏ ومن رأى الجمع بين الأثر والنظر حمل التوقيت على الاستحباب‏.‏ وأما الذين اختلفوا في التوقيت، فسبب اختلافهم ألفاظ الروايات في ذلك عن أم عطية‏.‏ فأما الشافعي فإنه رأى أن لا ينقص عن ثلاثة لأنه أقل وتر نطق به في حديث أم عطية، ورأى أن ما فوق ذلك مباح لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أو أكثر من ذلك إن رأيتن‏"‏‏.‏ وأما أحمد فأخذ بأكثر وتر نطق به في بعض روايات الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أو سبعا‏"‏‏.‏ وأما أبو حنيفة فصار في قصره الوتر على الثلاث لما روي أن محمد بن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية ‏"‏ثلاثا يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور‏"‏ وأيضا فإن الوتر الشرعي عنده إنما ينطلق على الثلاث فقط‏.‏ وكان مالك يستحب أن يغسل في الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور‏.‏ واختلفوا إذا خرج من بطنه حدث هل يعاد غسله أم لا‏؟‏ فقيل لا يعاد، وبه قال مالك، وقيل يعاد‏.‏ والذين رأوا أنه يعاد اختلفوا في العدد الذي تجب به الإعادة إن تكرر خروج الحدث، فقيل يعاد الغسل عليه واحدة، وبه قال الشافعي‏.‏ وقيل يعاد ثلاثا‏.‏ وقيل يعاد سبعا‏.‏ وأجمعوا على أنه لا يزاد على السبع شيء‏.‏ واختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره، فقال قوم‏:‏ تقلم أظفاره ويؤخذ منه‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر‏.‏ وأما سبب الخلاف في ذلك، فالخلاف الواقع في ذلك في الصدر الأول، ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك قياس الميت على الحي، فمن قاسه أوجب تقليم الأظفار وحلق العانة لأنها من سنة الحي باتفاق، وكذلك اختلفوا في عصر بطنه قبل أن يغسل‏.‏ فمنهم من رأى ذلك، ومنهم من لم يره‏.‏ فمن رآه رأى أن فيه ضربا من الاستنقاء من الحدث عند ابتداء الطهارة، وهو مطلوب من الميت كما هو مطلوب من الحي‏.‏ ومن لم ير ذلك رأى أنه من باب تكليف ما لم يشرع، وأن الحي في ذلك بخلاف الميت‏.‏

 الباب الثالث في الأكفان‏.‏

-والأصل في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ‏"‏وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية قالت ‏"‏كنت فيمت غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب معه أكفانها يناولناها ثوبا ثوبا‏"‏ فمن العلماء من أخذ بظاهر هذين الأثرين فقال‏:‏ يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة أثواب، وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ أقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب، وأقل ما يكفن فيه الرجل ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب‏.‏ ورأى مالك أنه لا حد في ذلك، وأنه يجزئ ثوب واحد فيهما إلا أنه يستحب الوتر‏.‏ وسبب اختلافهم في التوقيت اختلافهم في مفهوم هذين الأثرين، فمن فهم منهما الإباحة لم يقل بالتوقيت إلا أنه استحب الوتر لاتفاقهما في الوتر، ولم يفرق في ذلك بين المرأة والرجل، وكأنه فهم منهما الإباحة إلا في التوقيت، فإنه فهم منه شرعا لمناسبته للشرع، ومن فهم من العدد أنه شرع الإباحة قال بالتوقيت، إما على جهة الوجوب، وإما على جهة الاستحباب، وكله واسع إن شاء الله وليس فيه شرع محدود، ولعله تكلف شرع فيما ليس فيه شرع، وقد كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر‏"‏ واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ المحرم بمنزلة غير المحرم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص‏.‏ فأما الخصوص فهو حديث ابن عباس قال ‏"‏أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال‏:‏ كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي‏"‏ وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكما على الجميع، وقال‏:‏ لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا‏.‏ ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال‏:‏ حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره‏.‏

 الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة‏.‏

-واختلفوا في سنة المشي مع الجنازة‏.‏ فذهب أهل المدينة إلى أن من سنتها المشي أمامها‏.‏ وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم‏:‏ إن المشي خلفها أفضل‏.‏ وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من الفريقين عن سلفه وعمل به، فروى مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام مرسلا، المشي أمام الجنازة، وعن أبي بكر وعمر وبه قال الشافعي‏.‏ وأخذ أهل الكوفة بما رووا عن علي بن أبي طالب من طريق عبد الرحمن بن أبزي قال‏:‏ كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها، فقلت له في ذلك فقال‏:‏ إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة، وإنهما ليعلمان ذلك، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس‏.‏ وروي عنه رضي الله عنه أنه قال‏:‏ قدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة، وبما روي أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول‏:‏ سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير مع الجنازة فقال ‏"‏الجنازة متبوعة وليست بتابعة، وليس معها من يقدمها‏"‏ وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏الراكب يمشي أمام الجنازة والماشي خلفها وأمامها وعن يمينها، ويسارها قريبا منها‏"‏ وحديث أبي هريرة أيضا في هذا المعنى قال ‏"‏امشوا خلف الجنازة‏"‏، وهذه الأحاديث صار إليها الكوفيون وهي أحاديث يصححونها ويضعفها غيرهم‏.‏ وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز ثم جلس‏"‏ وذهب قوم إلى وجوب القيام، وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع‏"‏ واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن، فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي، وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ، ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك، وذلك أنه روى النسخ، وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ قليل لأخينا قيامنا على قبره‏.‏

 الباب الخامس في الصلاة على الجنازة‏.‏

-وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول‏:‏ أحدها في صفة صلاة الجنازة‏.‏ والثاني‏:‏ على من يصلي، ومن أولى بالصلاة‏.‏ والثالث‏:‏ في وقت هذه الصلاة‏.‏ والرابع‏:‏ في موضع هذه الصلاة‏.‏ والخامس‏:‏ في شروط هذه الصلاة‏.‏

 الفصل الأول في صفة صلاة الجنازة‏.‏ فأما صفة الصلاة فإنها يتعلق بها مسائل‏:‏

-‏(‏ المسألة الأولى‏)‏ اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافا كثيرا من ثلاث إلى سبع‏:‏ أعني الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع، إلا ابن أبي ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولون إنهما خمس‏.‏ وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات‏"‏ وهو حديث متفق على صحته، ولذلك أخذ به جمهور فقهاء الأمصار، وجاء في هذا المعنى أيضا من ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر مسكينة فكبر عليها أربعا‏"‏ وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال ‏"‏كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألناه فقال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها‏"‏ وروي عن أبي خيثمة عن أبيه قال ‏"‏كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي، فصف الناس وراءه وكبر أربعا، ثم ثبت صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله‏"‏ وهذا فيه حجة لائحة للجمهور‏.‏ وأجمع العلماء على رفع اليدين في أول التكبير على الجنازة، واختلفوا في سائر التكبير، فقال قوم‏:‏ يرفع؛ وقال قوم‏:‏ لا يرفع‏.‏ وروى الترمذي عن أبي هريرة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في جنازة فرفع يديه في أول التكبير ووضع يده اليمنى على اليسرى‏"‏ فمن ذهب إلى ظاهر هذا الأثر وكان مذهبه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في أول التكبير قال‏:‏ الرفع في أول التكبير‏.‏ ومن قال يرفع في كل تكبير شبه التكبير الثاني بالأول، لأنه كله يفعل في حال القيام والاستواء‏.‏

-‏(‏ المسألة الثانية‏)‏ اختلف الناس في القراءة في صلاة الجنازة، فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ ليس فيها قراءة إنما هو الدعاء‏.‏ وقال مالك‏:‏ قراءة فاتحة الكتاب فيها ليس بعمول به في بلدنا بحال قال‏:‏ وإنما يحمد الله ويثني عليه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، ثم يفعل في سائر التكبيرات مثل ذلك، وبه قال أحمد وداود‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر وهل يتناول أيضا اسم الصلاة صلاة الجنائز أم لا‏؟‏ أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده، وأما الأثر فما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال‏:‏ صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال‏:‏ تعلموا أنها السنة، فمن ذهب إلى ترجيح هذا الأثر على العمل وكان اسم الصلاة يتناول عنده صلاة الجنازة وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏"‏ رأى قراءة فاتحة الكتاب فيها‏.‏ ويمكن أن يحتج لمذهب مالك بظواهر الآثار التي نقل فيها دعاؤه عليه الصلاة والسلام على الجنائز، ولم ينقل فيها أنه قرأ، وعلى هذا فتكون تلك الآثار كأنها معارضة لحديث ابن عباس ومخصصة لقوله ‏"‏لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب‏"‏ وذكر الطحاوي عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال وكان من كبراء الصحابة وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا‏:‏ أن رجلا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أن السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سرا في نفسه، ثم يخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ فذكرت الذي أخبر به أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال‏:‏ وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنائز بمثل ما حدثك به أبو أمامة‏.‏

-‏(‏ المسألة الثالثة‏)‏ واختلفوا في التسليم من الجنازة هل هو واحد أو اثنان‏؟‏ فالجمهور على أنه واحد؛ وقالت طائفة وأبو حنيفة‏:‏ يسلم تسليمتين، واختاره المزني من أصحاب الشافعي، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في التسليم من الصلاة، وقياس صلاة الجنائز على الصلاة المفروضة، فمن كانت عنده التسليمة واحدة في الصلاة المكتوبة وقاس صلاة الجنازة عليها قال بواحدة‏.‏ ومن كانت عنده تسليمتين في الصلاة المفروضة قال‏:‏ هنا بتسليمتين إن كانت عنده تلك سنة فهذه سنة، وإن كانت فرضا فهذه فرض وكذلك اختلف المذهب هل يجهر فيها أو لا يجهر بالسلام‏؟‏‏.‏

-‏(‏ المسألة الرابعة‏)‏ واختلفوا أين يقوم الإمام من الجنازة، فقال جملة من العلماء‏:‏ يقوم في وسطها ذكرا كان أو أنثى؛ وقال قوم آخرون‏:‏ يقوم من الأنثى وسطها ومن الذكر عند رأسه؛ ومنهم من قال‏:‏ يقوم من الذكر والأنثى عند صدرهما، وهو قول ابن القاسم وقول أبي حنيفة، وليس عند مالك والشافعي في ذلك حد؛ وقال قوم‏:‏ يقوم منهما أين شاء‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه خرج البخاري ومسلم من حديث سمرة بن جندب قال ‏"‏صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة على وسطها‏"‏ وخرج أبو داود من حديث همام بن غالب قال‏:‏ ‏"‏صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة فقالوا يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز كبر أربعا وقام على جنازة المرأة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه، قال نعم، فاختلف الناس في المفهوم من هذه الأفعال، فمنهم من رأى أن قيامه عليه الصلاة والسلام في هذه المواضع المختلفة يدل على الإباحة وعلى عدم التحديد‏.‏ ومنهم من رأى أن قيامه على أحد هذه الأوضاع أنه شرع وأنه يدل على التحديد، وهؤلاء انقسموا قسمين‏:‏ فمنهم من أخذ بحديث سمرة بن جندب للاتفاق على صحته فقال‏:‏ المرأة في ذلك والرجل سواء، لأن الأصل أن حكمهما واحد إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي؛ ومنهم من صحح حديث ابن غالب وقال فيه زيادة على حديث سمرة بن جندب فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلا‏.‏ وأما مذهب ابن القاسم وأبي حنيفة فلا أعلم له من جهة السمع في ذلك مسندا إلا ما روي عن ابن مسعود من ذلك‏.‏

-‏(‏ المسألة الخامسة‏)‏ واختلفوا في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا عند الصلاة، فقال الأكثر‏:‏ يجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة‏.‏ وقال قوم بخلاف هذا‏:‏ أي النساء مما يلي الإمام، والرجال مما يلي القبلة؛ وفيه قول ثالث أنه يصلي كل على حدة الرجال مفردون والنساء مفردات‏.‏ وسبب الخلاف ما يغلب على الظن باعتبار أحوال الشرع من أنه يجب أن يكون في ذلك شرع محدود، مع أنه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده، ولذلك رأى كثير من الناس أنه ليس في أمثال هذه المواضع شرع أصلا‏.‏ وأنه لو كان فيها شرع لبين للناس، وإنما ذهب الأكثر لما قلناه من تقديم الرجال على النساء لما رواه مالك في الموطأ من أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء معا، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، ويجعلون النساء مما يلي القبلة‏.‏ وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه صلى كذلك على جنازة فيها ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والإمام يومئذ سعيد بن العاص، فسألهم عن ذلك، أو أمر من سألهم فقالوا‏:‏ هي السنة، وهذا يدخل في المسند عندهم، ويشبه أن يكون من قال بتقديم الرجال شبههم أمام الإمام بحالهم خلف الإمام في الصلاة، ولقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏أخروهن من حيث أخرهن الله‏"‏‏.‏ وأما من قال بتقديم النساء على الرجال فيشبه أن يكون اعتقد أن الأول هو المقدم ولم يجعل التقديم بالقرب من الإمام‏.‏ وأما من فرق فاحتياطا من أن لا يجوز ممنوعا، لأنه لم ترد سنة بجواز الجمع، فيحتمل أن يكون على أصل الإباحة، ويحتمل أن يكون ممنوعا بالشرع، وإذا وجد الاحتمال وجب التوقف إذا وجد إليه سبيلا‏.‏

-‏(‏ المسألة السادسة‏)‏ واختلفوا في الذي يفوته بعض التكبير على الجنازة في مواضع‏:‏ منها هل يدخل بتكبير أم لا‏؟‏ ومنها هل يقضي ما فاته أم لا‏؟‏ وإن قضى فهل يدعو بين التكبير أم لا‏؟‏ فروى أشهب عن مالك أنه يكبر أول دخوله، وهو أحد قولي الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ينتظر حتى يكبر الإمام وحينئذ يكبر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، والقياس التكبير قياسا على من دخل في المفروضة‏.‏ واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي على أنه يقضي ما فاته من التكبير إلا أن أبا حنيفة يرى أن يدعو بين التكبير المقضي ومالك والشافعي يريان أن يقضيه نسقا، وإنما اتفقوا على القضاء لعموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا‏"‏ فمن رأى أن هذا العموم يتناول التكبير والدعاء قال‏:‏ يقتضي التكبير وما فاته من الدعاء، ومن أخرج الدعاء من ذلك إذ كان غير مؤقت قال‏:‏ يقضي التكبير فقط إذ كان هو المؤقت، فكان تخصيص الدعاء من ذلك العموم هو من باب تخصيص العام بالقياس، فأبو حنيفة أخذ بالعموم وهؤلاء بالخصوص‏.‏

-‏(‏ المسألة السابعة‏)‏ واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة فقال مالك‏:‏ لا يصلى على القبر؛ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة، وكان الذي صلى عليها غير وليها؛ وقال الشافعي وأحمد وداود وجماعة‏:‏ يصلي على القبر من فاتته الصلاة على الجنازة؛ واتفق القائلون بإجازة الصلاة على القبر أن من شرط ذلك حدوث الدفن، وهؤلاء اختلفوا في هذه المدة وأكثرها شهر‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر‏.‏ أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال‏:‏ قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر إمرأة قال‏:‏ قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل، والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث، قال أحمد بن حنبل‏:‏ رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق ستة كلها حسان‏.‏ وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع‏.‏ وأما البخاري ومسلم فرويا ذلك من طريق أبي هريرة‏.‏ وأما مالك فخرجه مرسلا عن أبي أمامة بن سهل‏.‏ وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول الشافعي، وأما أبو حنيفة فإنه جرى في ذلك على عادته فيما أحسب، أعني من رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر ولا انتشر العمل بها، وذلك أن عدم الانتشار إذا كان خبرا شأنه شأن الانتشار قرينة توهن الخبر وتخرجه عن غلبة الظن بصدقه إلى الشك فيه أو إلى غلبة الظن بكذبه أو نسخه‏:‏ قال القاضي‏:‏ وقد تكلمنا فيما سلف من كتابنا هذا في وجه الاستدلال بالعمل، وفي هذا النوع من الاستدلال الذي يسميه الحنفية عموم البلوى، وقلنا‏:‏ إنها من جنس واحد‏.‏

 الفصل الثاني فيمن يصلي عليه ومن أولى بالتقديم‏.‏

-وأجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله، وفي ذلك أثر أنه قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏صلوا على من قال لا إله إلا الله‏"‏ وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع، إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع، ولم ير أن يصلي الإمام على من قتله حدا‏.‏ واختلفوا فيمن قتل نفسه، فرأى قوم أنه لا يصلى عليه، وأجاز آخرون الصلاة عليه، ومن العلماء من لم يجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع‏.‏ والسبب في اختلافهم في الصلاة، أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم، فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يجز الصلاة عليهم، ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ الصلاة عليهم جائزة، وإنما أجمع العلماء على ترك الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة لقوله تعالى ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره‏}‏ الآية‏.‏ وأما اختلافهم في أهل الكبائر فليس يمكن أن يكون له سبب إلا من جهة اختلافهم في القول في التكفير بالذنوب لكن ليس هذا مذهب أهل السنة، فلذلك ليس ينبغي أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر‏.‏

وأما كراهية مالك الصلاة على أهل البدع فذلك لمكان الزجر والعقوبة لهم، وإنما لم ير مالك صلاة الإمام على من قتله حدا ‏"‏لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ما عز ولم ينه عن الصلاة عليه‏"‏ خرجه أبو داود، وإنما اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه لحديث جابر بن سمرة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يصلي على رجل قتل نفسه‏"‏ فمن صحح هذا الأثر قال‏:‏ لا يصلى على قاتل نفسه، ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل النار كما ورد به الأثر، لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه ‏"‏أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان‏"‏ واختلفوا أيضا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة، فقال مالك والشافعي لا يصلى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل، وقال أبو حنيفة‏:‏ يصلى عليه ولا يغسل‏.‏ وسبب اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه خرج أبو داود من طريق جابر ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا‏"‏ وروى من طريق ابن عباس مسندا ‏"‏أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قتلى أحد وعلى حمزة ولم يغسل ولم يتيمم‏"‏ وروى ذلك أيضا مرسلا من حديث أبي مالك الغفاري، وكذلك روى أيضا أن أعرابيا جاءه سهم فوقع في حلقه فمات، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏إن هذا عبد خرج مجاهدا في سبيلك فقتل شهيدا وأنا شهيد عليه‏"‏ وكلا الفريقين يرجح الأحاديث التي أخذ بها،

وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول‏:‏ يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختل آخر عمره، وقد كان شعبة يطعن فيه؛ وأما المراسيل فليست عندهم بحجة واختلفوا متى يصلى على الطفل فقال مالك‏:‏ لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة يصلي عليه إذا نفخ فيه الروح، وذلك أنه إذا كان له في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر، وبه قال ابن أبي ليلى‏.‏ وسبب اختلافهم في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه روى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا‏"‏ وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال ‏"‏الطفل يصلى عليه‏"‏ فمن ذهب مذهب حديث جابر قال‏:‏ ذلك عام وهذا مفسر، فالواجب أن يحمل ذلك العموم على هذا التفسير، فيكون معنى حديث المغيرة أن الطفل يصلى عليه إذا استهل صارخا، ومن ذهب مذهب حديث المغيرة قال‏:‏ معلوم أن المعتبر في الصلاة وهو حكم الإسلام والحياة والطفل إذا تحرك فهو حي وحكمه حكم المسلمين، وكل مسلم حي إذا مات صلى عليه، فرجحوا هذا العموم على ذلك الخصوص لموضع موافقة القياس له ومن الناس من شذ وقال‏:‏ لا يصلى على الأطفال أصلا‏.‏ وروى أبو داود ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ابنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أشهر‏"‏ وروي فيه ‏"‏أنه صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة‏"‏ واختلفوا في الصلاة على الأطفال المسبيين، فذهب مالك في رواية البصرين عنه أن الطفل من أولاد الحربيين لا يصلى عليه حتى يعقل الإسلام سواء سبى مع أبويه أو لم يسب معهما، وأن حكمه حكم أبويه إلا أن يسلم الأب فهو تابع له دون الأم، ووافقه الشافعي على هذا إلا أنه إن أسلم أحد أبويه فهو عنده تابع لمن أسلم منهما لا للأب وحده على ما ذهب إليه مالك‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ يصلى على الأطفال المسبيين، وحكمهم حكم من سباهم‏.‏ وقال الأوزاعي‏:‏ إذا ملكهم المسلمون صلى عليهم‏:‏ يعني إذا بيعوا في السبي‏.‏ قال‏:‏ وبهذا جرى العمل في الثغر وبه الفتيا فيه‏.‏ وأجمعوا على أنه إذا كانوا مع آبائهم ولم يملكهم مسلم ولا أسلم أحد أبويهم أن حكمهم حكم آبائهم‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلافهم في أطفال المشركين هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار‏؟‏ وذلك أنه جاء في بعض الآثار أنهم من آبائهم‏:‏ أي أن حكمهم حكم آبائهم ودليل قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏كل مولود يولد على الفطرة‏"‏ أن حكمهم حكم المؤمنين‏.‏ وأما من أولى بالتقديم للصلاة على الجنازة فقيل الولي وقيل الوالي، فمن قال الوالي شبهه بصلاة الجمعة من حيث هي صلاة جماعة، ومن قال الولي شبهها بسائر الحقوق التي الولي أحق بها، مثل مواراته ودفنه، وأكثر أهل العلم على أن الوالي بها أحق‏.‏

قال أبو بكر بن المنذر‏:‏ وقدم الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو والي المدينة ليصلي على الحسن بن علي وقال‏:‏ لولا أنها سنة ما تقدمت، قال أبو بكر‏:‏ وبه أقول وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر‏.‏ وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي، والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده‏.‏ واختلفوا هل يصلى على بعض الجسد والجمهور على أنه يصلى على أكثره لتناول إسم الميت له، ومن قال أنه يصلى على أقله قال‏:‏ لأن حرمة البعض كحرمة الكل، لاسيما إن كان ذلك البعض محل الحياة، وكان ممن يجيز الصلاة على الغائب‏.‏

 الفصل الثالث في وقت الصلاة على الجنازة‏:‏

-واختلفوا في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة على الجنازة، فقال قوم‏:‏ لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر ‏"‏ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا‏"‏ الحديث‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يصلى في الغروب والطلوع فقط، ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يكن الإسفار‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وبه قال عطاء والنخعي وغيرهم، وهو قياس قول أبي حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يصلى على الجنازة في كل وقت لأن النهي عنده إنما هو خارج على النوافل لا على السنن على ما تقدم‏.‏

 الفصل الرابع في مواضع الصلاة‏.‏

-واختلفوا في الصلاة على الجنازة في المسجد فأجازها العلماء وكرهها بعضهم منهم أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك، وقد روي كراهية ذلك عن مالك، وتحقيقه إذا كانت الجنازة خارج المسجد والناس في المسجد‏.‏ وسبب الخلاف في ذلك حديث عائشة وحديث أبي هريرة‏.‏ أما حديث عائشة فما رواه مالك من أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر الناس عليها ذلك، فقالت عائشة‏:‏ ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء إلا في المسجد‏.‏ وأما حديث أبي هريرة، فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له‏"‏ وحديث عائشة ثابت وحديث أبي هريرة غير ثابت أو غير متفق على ثبوته، لكن إنكار الصحابة على عائشة يدل على اشتهار العمل بخلاف ذلك عندهم، ويشهد لذلك بروزه صلى الله عليه وسلم للمصلى لصلاته على النجاشي، وقد زعم بعضهم أن سبب المنع في ذلك هو أن ميت بني آدم ميتة، وفيه ضعف، لأن حكم الميتة شرعي، ولا يثبت لابن آدم حكم الميتة إلا بدليل، وكره بعضهم الصلاة على الجنائز في المقابر للنهي الوارد عن الصلاة فيها، وأجازها الأكثر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا‏"‏‏.‏

 الفصل الخامس في شروط الصلاة على الجنازة‏.‏

-واتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة‏.‏ واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها، فقال قوم‏:‏ يتيمم ويصلى لها إذا خاف الفوات، وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة؛ وقال مالك والشافعي وأحمد‏:‏ لا يصلى عليها بتيمم‏.‏ وسبب اختلافهم قياسها في ذلك على أن الصلاة المفروضة فمن شبهها بها أجاز التيمم، أعني من شبه ذهاب الوقت بفوات الصلاة على الجنازة، ومن لم يشبهها بها لم يجز التيمم لأنها عنده من فروض الكغاية أو من سنن الكفاية على اختلافهم في ذلك، وشذ قوم فقالوا‏:‏ يجوز أن يصلى على الجنازة بغير طهارة، وهو قول الشعبي، وهؤلاء ظنوا أن اسم الصلاة لا يتناول صلاة الجنازة، وإنما يتناولها اسم الدعاء إذ كان ليس فيها ركوع ولا سجود‏.‏

 الباب السادس في الدفن‏.‏

-وأجمعوا على وجوب الدفن، والأصل فيه قوله تعالى ‏{‏ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا‏}‏ وقوله ‏{‏فبعث الله غرابا يبحث في الأرض‏}‏ وكره مالك والشافعي تجصيص القبور، وأجاز ذلك أبو حنيفة، وكذلك كره قوم القعود عليها، وقوم أجازوا ذلك وتأولوا النهي عن ذلك أنه القعود عليها لحاجة الإنسان والآثار الواردة في النهي عن ذلك، منها حديث جابر بن عبد الله قال ‏"‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور والكتابة عليها والجلوس عليها والبناء عليها‏"‏ ومنها حديث عمرو بن حزم قال ‏"‏رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر فقال‏:‏ انزل عن القبر ولا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك‏"‏ واحتج من أجاز القعود على القبر بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال ‏"‏إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور لحدث أو غائط أو بول‏"‏ قالوا‏:‏ ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من جلس على قبر يبول أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة نار‏"‏ وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي‏.‏

‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما‏)‏ ‏(‏تنبيه‏:‏ حيث أننا التزمنا في التصحيح النسخة المغربية وفيها تقديم كتاب الزكاة على الصيام فقدمناه تبعا لها، وإن كانت النسخة المصرية قدمت الصيام‏)‏‏.‏

 كتاب الزكاة

-والكلام المحيط بهذه العبادة بعد معرفة وجوبها ينحصر في خمس جمل‏:‏ الجملة الأولى‏:‏ في معرفة من تجب عليه‏.‏ الثانية‏:‏ في معرفة ما تجب فيه من الأموال‏.‏ الثالثة‏:‏ في معرفة كم تجب ومن كم تجب‏.‏ الرابعة‏:‏ في معرفة متى تجب ومتى لا تجب‏.‏ الخامسة‏:‏ معرفة لمن تجب وكم يجب له‏.‏

-‏(‏فأما معرفة وجوبها‏)‏ فمعلوم من الكتاب والسنة والإجماع ولا خلاف في ذلك‏.‏

 (‏الجملة الأولى‏)

-وأما على من تجب فإنهم اتفقوا أنها على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكا تاما‏.‏ واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبيد وأهل الذمة والناقص الملك مثل الذي عليه دين أو له الدين، ومثال المال المحبس الأصل‏.‏ فأما الصغار فإن قوما قالوا‏:‏ تجب الزكاة في أموالهم، وبه قال علي وابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار‏.‏ وقال قوم‏:‏ ليس في مال اليتيم صدقة أصلا، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين‏.‏ وفرق قوم بين ما تخرج الأرض وبين ما لا تخرجه فقالوا‏:‏ عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك من الماشية والناض والعروض وغير ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه‏.‏ وفرق آخرون بين الناض فقالوا‏:‏ عليه الزكاة إلا في الناض‏.‏ وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية هل هي عبادة كالصلاة والصيام‏؟‏ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء‏؟‏ فمن قال أنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال أنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره‏.‏ وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه وبين الخفي والظاهر فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت‏.‏ وأما أهل الذمة فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وليس عن مالك في ذلك قول، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه أثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيف ولكن الأصول تعارضه‏.‏ وأما العبيد فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب‏:‏ فقوم قالوا‏:‏ لا زكاة في أموالهم أصلا، وهو قول ابن عمر وجابر من الصحابة ومالك وأحمد وأبي عبيد من الفقهاء‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل زكاة مال العبد على سيده، وبه قال الشافعي فيما حكاه ابن المنذر والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مروي عن ابن عمر من الصحابة، وبه قال عطاء من التابعين وأبو ثور من الفقهاء وأهل الظاهر وبعضهم، وجمهور من قال لا زكاة في مال العبد هم على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ في مال المكاتب زكاة‏.‏

وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد اختلافهم في هل يملك العبد ملكا تاما أو غير تام‏؟‏ فمن رأى أنه لا يملك ملكا تاما وأن السيد هو المالك إذ كان لا يخلو مال من مالك قال‏:‏ الزكاة على السيد، ومن رأى أنه لواحد منهما يملكه ملكا تاما لا السيد إذ كانت يد العبد هي التي عليه لا يد السيد ولا العبد أيضا، لأن للسيد انتزاعه منه قال‏:‏ لا زكاة في ماله أصلا‏.‏ ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه تشبيها بتصرف يد الحر قال‏:‏ الزكاة عليه لا سيما من كان عنده أن الخطاب العام يتناول الأحرار والعبيد، وأن الزكاة عبادة تتعلق بالمكلف لتصرف اليد في المال‏.‏ وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم‏:‏ لا زكاة في مال حيا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا، وبه قال الثوري وأبو ثور وابن مبارك وجماعة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها‏.‏ وقال مالك‏:‏ الدين يمنع الزكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع‏.‏ وقال قوم‏:‏ بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين‏؟‏ فمن رأى أنها حق لهم قال‏:‏ لا زكاة في مال من عليه الدين، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده‏.‏ ومن قال هي عبادة قال‏:‏ تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ وأيضا فإنه تعارض هنالك حقان‏:‏ حق لله، وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى، والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان لقوله عليه الصلاة والسلام فيها ‏"‏صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم‏"‏ والمدين ليس بغني‏.‏ وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة، وقد كان أبو عبيد يقول‏:‏ إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه، وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة، وإنما هو خلاف لمن يقول‏:‏ يصدق في الدين كما يصدق في المال‏.‏

وأما المال الذي هو في الذمة، أعني في ذمة الغير وليس هو بيد المالك وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فقوم قالوا‏:‏ لا زكاة فيه وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الليث، أو هو قياس قوله؛ وقوم قالوا‏:‏ إذا قبضه زكاة لما مضى من السنين‏.‏ وقال مالك‏:‏ يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض‏.‏ وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول، وفي المذهب تفصيل في ذلك ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار المحبوسة الأصول، وفي زكاة الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما يخرج منها‏؟‏ هل على صاحب الأرض أو صاحب الزرع‏؟‏ ومن ذلك اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت من أهل الخراج إلى المسلمين وهم أهل العشر، وفي الأرض العشر وهي أرض المسلمين إذا انتقلت إلى الخراج، وأعني أهل الذمة، وذلك أنه يشبه أن يكون سبب الخلاف في هذا كله أنها أملاك ناقصة‏.‏

-‏(‏ وأما المسألة الأولى‏)‏ وهي زكاة الثمار المحبسة الأصول فإن مالكا والشافعي كانا يوجبان فيها الزكاة، وكان مكحول وطاوس يقولان لا زكاة فيها، وفرق قوم بين أن تكون محبسة على المساكين وبين أن تكون على قوم أعيانهم فأوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على قوم بأعيانهم، ولم يوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على المساكين، ولا معنى لمن أوجبها على المساكين لأنه يجتمع في ذلك شيئان اثنان‏:‏ أحدهما أنها ملك ناقص، والثانية أنها على قوم غير معينين من الصنف الذين تصرف إليهم الصدقة لا من الذين تجب عليهم‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثانية‏)‏ وهي الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما تخرجه فإن قوما قالوا‏:‏ الزكاة على صاحب الزرع، وبه قال مالك والشافعي والثوري وابن مبارك وأبو ثور وجماعة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ الزكاة على رب الأرض وليس على المستأجر منه شيء‏.‏ والسبب في اختلافهم هل العشر حق الأرض أو حق الزرع أو حق مجموعهما‏؟‏ إلا أنه لم يقل أحد إنه حق لمجموعهما وهو في الحقيقة حق مجموعهما، فلما كان عندهم أنه حق لأحد الأمرين اختلفوا في أيهما هو أولى أن ينسب إلى الموضع الذي فيه الاتفاق، وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد، فذهب الجمهور إلى أنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة وهو الحب‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب وهو الأرض‏.‏ وأما اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت إلى المسلمين هل فيها عشر مع الخراج أم ليس فيها عشر‏؟‏ فإن الجمهور على أن فيها العشر‏:‏ أعني الزكاة‏.‏ قال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ ليس فيها عشر‏.‏ وسبب اختلافهم كما قلنا هل الزكاة حق الأرض، أو حق الحب‏؟‏ فإن قلنا إنه حق الأرض لم يجتمع فيها حقان‏:‏ وهما العشر والخراج، وإن قلنا‏:‏ الزكاة حق الحب كان الخراج حق الأرض، والزكاة حق الحب، وإنما يجيء هذا الخلاف فيها لأنها ملك ناقص كما قلنا ولذلك اختلف العلماء في جواز بيع أرض الخراج‏.‏ وأما إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي يزرعها، فإن الجمهور على أنه ليس فيها شيء‏.‏ وقال النعمان‏:‏ إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج، فكأنه رأى أن العشر هو حق أرض المسلمين، والخراج هو حق أرض الذميين، لكن كان يجب على هذا الأصل إذا انتقلت أرض الخراج إلى المسلمين أن تعود أرض عشر كما أن عنده إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي عادت أرض خراج، ويتعلق بالمالك مسائل أليق المواضع بذكرها هو هذا الباب‏:‏ أحدها إذا أخرج المرء الزكاة فضاعت‏.‏ والثانية إذا أمكن إخراجها فهلك بعض المال قبل الإخراج‏.‏ والثالثة إذا مات وعليه زكاة‏.‏ والرابعة إذا باع الزرع أو الثمر وقد وجبت فيه الزكاة على من الزكاة، وكذلك إذا وهبه‏.‏

-‏(‏فأما  المسألة الأولى‏)‏ وهي إذا أخرج الزكاة فضاعت، فإن قوما قالوا‏:‏ تجزى عنه؛ وقوم قالوا‏:‏ هو لها ضامن حتى يضعها موضعها؛ وقوم فرقوا بين أن يخرجها بعد أن أمكنه إخراجها، وبين أن يخرجها أول زمان الوجوب والإمكان، فقال بعضهم‏:‏ إن أخرجها بعد أيام من الإمكان والوجوب ضمن وإن أخرجها في أول الوجوب ولم يقع منه تفريط لم يضمن وهو مشهور مذهب مالك؛ وقوم قالوا‏:‏ إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي، وقال قوم‏:‏ بل يعد الذاهب من الجميع ويبقى المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال، مثل الشريكين يذهب بعض المال المشترك بينهما ويبقيان شريكين على تلك النسبة في الباقي، فيتحصل في المسألة خمسة أقوال‏:‏ قول إنه لا يضمن بإطلاق، وقول إنه يضمن بإطلاق، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، والقول الخامس يكونان شريكين في الباقي‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثانية‏)‏ إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب وقبل تمكن إخراج الزكاة؛ فقوم قالوا‏:‏ يزكى ما بقي؛ وقوم قالوا‏:‏ حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين يضيع بعض مالهما‏.‏ والسبب في اختلافهم تشبيه الزكاة بالديون، أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة لا بعين المال، أو تشبيهها بالحقوق التي تتعلق بعين المال لا بذمة الذي يده على المال كالأمناء وغيرهم‏.‏ فمن شبه مالكي الزكاة بالأمناء قال‏:‏ إذا اخرج فهلك المخرج فلا شيء عليه؛ ومن شبههم بالغرماء قال‏:‏ يضمنون؛ ومن فرق بين التفريط ولا تفريط ألحقهم بالأمناء من جميع الوجوه إذا كان الأمين يضمن إذا فرط‏.‏ وأما من قال‏:‏ إذا لم يفرط زكى ما بقي فإنه شبه من هلك بعض ماله بعد الإخراج بمن ذهب بعض ماله قبل وجوب الزكاة فيه، كما أنه إذا وجبت الزكاة عليه فإنما يزكى الموجود فقط، وكذلك هذا إنما يزكى الموجود من ماله فقط‏.‏ وسبب الاختلاف هو تردد شبه المالك بين الغريم والأمين والشريك ومن هلك بعض ماله قبل الوجوب‏.‏ وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن من الإخراج فلم يخرج حتى ذهب بعض المال فإنهم متفقون فيما أحسب أنه ضامن إلا في الماشية عند من رأى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول وهو مذهب مالك‏.‏

-‏(‏وأما  المسألة الثالثة‏)‏ وهي إذا مات بعد وجوب الزكاة عليه‏.‏ فإن قوما قالوا‏:‏ يخرج من رأس ماله، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقوم قالوا‏:‏ إن أوصى بها أخرجت عنه من الثلث وإلا فلا شيء عليه، ومن هؤلاء من قال‏:‏ يبدأ بها إن ضاق الثلث، ومنهم من قال‏:‏ لا يبدأ بها، وعن مالك القولان جميعا، ولكن المشهور أنها بمنزلة الوصية‏.‏ وأما اختلافهم في المال يباع بعد وجوب الصدقة فيه، فإن قوما قالوا‏:‏ يأخذ المصدق الزكاة من المال نفسه ويرجع المشتري بقيمته على البائع، وبه قال أبو ثور‏.‏ وقال قوم‏:‏ البيع مفسوخ، وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ المشتري بالخيار بين إنقاذ البيع ورده، والعشر مأخوذ من الثمرة أو من الحب الذي وجبت فيه الزكاة، وقال مالك‏:‏ الزكاة على البائع‏.‏ وسبب اختلافهم تشبيه بيع مال الزكاة بتفويته وإتلاف عينه، فمن شبهه بذلك قال‏:‏ الزكاة مترتبة في ذمة المتلف والمفوت؛ ومن قال البيع ليس بإتلاف لعين المال ولا تفويت له وإنما هو بمنزلة من باع ما ليس له قال‏:‏ الزكاة في عين المال، ثم هل البيع مفسوخ أو غير مفسوخ نظر آخر يذكر في باب البيوع إن شاء الله تعالى‏.‏ ومن هذا النوع اختلافهم في زكاة المال الموهوب، وفي بعض هذه المسائل التي ذكرنا تفصيل في المذهب لم نر أن نتعرض له إذ كان غير موافق لغرضنا مع أنه يعسر فيها إعطاء أسباب تلك الفروق لأنها أكثرها استحسانية مثل تفصيلهم الديون التي تزكى من التي لا تزكى، والديون المسقطة للزكاة من التي لا تسقطها، فهذا ما رأينا أن نذكره في هذه الجملة وهي معرفة من تجب عليه الزكاة وشروط الملك التي تجب به وأحكام من تجب عليه‏.‏ وقد بقي من أحكامه حكم مشهور، وهو ماذا حكم من منع الزكاة ولم يجحد وجوبها‏؟‏ فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى أن حكمه حكم المرتد، وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب وذلك أنه قاتلهم وسبى ذريتهم، وخالفه في ذلك عمر رضي الله عنه، وأطلق من كان استرق منهم، وبقول عمر قال الجمهور‏.‏ وذهبت طائفة إلى تكفير من منع فريضة من الفرائض وإن لم يجحد وجوبها‏.‏ وسبب اختلافهم هل اسم الإيمان الذي هو ضد الكفر ينطلق على الاعتقاد دون العمل فقط أو من شرطه وجود العمل معه‏؟‏ فمنهم من رأى أن من شرطه وجود العمل معه، ومنهم من لم يشترط ذلك حتى لو لم يلفظ بالشهادة إذا صدق بها فحكمه حكم المؤمن عند الله، والجمهور وهم أهل السنة على أنه ليس يشترط فيه، أعني في اعتقاد الإيمان الذي ضده الكفر من الأعمال إلا التلفظ بالشهادة فقط، لقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي‏"‏ فاشترط مع العلم القول، وهو عمل من الأعمال، فمن شبه سائر الأفعال الواجبة بالقول قال‏:‏ جميع الأعمال المفروضة شرط في العلم الذي هو الإيمان، ومن شبه القول بسائر الأعمال التي اتفق الجمهور على أنها ليست شرطا في العلم الذي هو الإيمان قال‏:‏ التصديق فقط هو شرط الإيمان، وبه يكون حكمه عند الله تعالى حكم المؤمن، والقولان شاذان، واستثناء التلفظ بالشهادتين من سائر الأعمال هو الذي عليه الجمهور‏.‏

‏(‏ الجملة الثانية‏)‏ وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء‏.‏ وأما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي، وثلاثة أصناف من الحيوان الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب الحنطة والشعير، وصنفان من الثمر التمر والزبيب، وفي الزيت خلاف شاذ‏.‏ واختلفوا أما من الذهب ففي الحلي فقط، وذلك أنه ذهب فقهاء الحجاز مالك والليث والشافعي إلى أنه لا زكاة فيه إذا أريد للزينة واللباس؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ فيه الزكاة‏.‏ والسبب في اختلافهم تردد شبهه بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أولا قال‏:‏ ليس فيه زكاة، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة بها أولا قال‏:‏ فيه الزكاة‏.‏ ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏ليس في الحلي زكاة‏"‏ وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ‏"‏أن امرأة أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسك من ذهب، فقال لها‏:‏ أتؤدين زكاة هذا‏؟‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار‏؟‏ فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت‏:‏ هما لله ورسوله‏"‏ والأثران ضعيفان، وبخاصة حديث جابر، ولكون السبب الأملك لاختلافهم تردد الحلي المتخذ للباس بين التبر والفضة اللذين المقصود منهما أولا المعاملة لا الانتفاع، وبين العروض المقصود منها التي بالوضع الأول خلاف المقصود من التبر والفضة، أعني الانتفاع بها لا المعاملة، وأعني بالمعاملة كونها ثمنا‏.‏ واختلف قول مالك في الحلي المتخذ للكراء فمرة شبهه بالحلي المتخذ من اللباس، ومرة شبهه بالتبر المتخذ للمعاملة‏.‏

-‏(‏وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان‏)‏ فمنه ما اختلفوا في نوعه، ومنه ما اختلفوا في صنفه‏.‏ وأما ما اختلفوا في نوعه فالخيل، وذلك أن الجمهور على أن لا زكاة في الخيل، فذهب أبو حنيفة إلى أنها إذا كانت سائمة وقصد بها النسل أن فيها الزكاة، أعني إذا كانت ذكرانا وإناثا‏.‏ والسبب في اختلافهم معارضة القياس للّفظ، وما يظن من معارضة اللفظ للّفظ فيها‏.‏ أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة‏"‏ وأما القياس الذي عارض هذا العموم، فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل، فأشبه الأبل والبقر‏.‏ وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏وقد ذكر الخيل ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها‏"‏ فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله هو الزكاة، وذلك السائمة منها‏.‏ قال القاضي‏:‏ وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما، فيحتج به في الزكاة؛ وخالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه أبو يوسف ومحمد، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة، فقيل إنه كان باختيار منهم‏.‏ وأما ما اختلفوا في صنفه فهي السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها، فإن قوما أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة سائمة كانت أو غير سائمة، وبه قال الليث ومالك؛ وقال سائر فقهاء الأمصار‏:‏ لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة الأنواع‏.‏ وسبب اختلافهم معارضة المطلق للمقيد، ومعارضة القياس لعموم اللفظ‏.‏ أما المطلق فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في أربعين شاة شاة‏"‏‏.‏ أما المقيد فقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في سائمة الغنم الزكاة‏"‏ فمن غلب المطلق على المقيد قال‏:‏ الزكاة في السائمة وغير السائمة؛ ومن غلب المقيد قال‏:‏ الزكاة في السائمة منها فقط، ويشبه أن يقال إن من سبب الخلاف في ذلك أيضا معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في سائمة الغنم الزكاة‏"‏ يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في أربعين شاة شاة‏"‏ يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة لكن العموم أقوى من دليل الخطاب، كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد‏.‏ وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقتضي على المقيد، وإن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة، وكذلك في الإبل لقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقه‏"‏ وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قول ثالث‏.‏

وأما القياس المعارض لعموم قوله عليه الصلاة والسلام فيها ‏"‏في أربعين شاة شاة‏"‏ فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك، والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة، ولذلك اشترط فيها الحول، فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم لم يوجب الزكاة في غير السائمة، ومن لم يخصص ذلك ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعا، فهذا هو ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة، وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا العسل، فإنهم اختلفوا فيه، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه، وقال قوم‏:‏ فيه الزكاة‏.‏ وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏في كل عشرة أزق زق‏"‏ خرجه الترمذي وغيره‏.‏ وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة التي ذكرناها فهو جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربع فقط، وبه قال ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وابن المبارك؛ ومنهم من قال‏:‏ الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات، وهو قول مالك والشافعي؛ ومنهم من قال‏:‏ الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب‏.‏ وهو أبو حنيفة‏.‏ وسبب الخلاف إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها، وبين من عداها إلى المدخر المقتات، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة هل هو لعينها أو لعلة فيها، وهي الاقتيات فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها، ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات‏.‏ وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب هو معارضة القياس لعموم اللفظ، أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر‏"‏ وما بمعنى الذي، والذي من ألفاظ العموم وقوله تعالى ‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات‏}‏ الآية‏.‏ إلى قوله ‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ ‏.‏

وأما القياس، فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات، ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك، إلا ما أخرجه الإجماع، والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة‏؟‏

وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس‏؟‏ مثل اختلاف مالك والشافعي في الزيتون، فإن مالكا ذهب إلى وجوب الزكاة فيه، ومنع ذلك الشافعي في قوله الأخير بمصر‏.‏ وسبب اختلافهم هل هو قوت أم ليس بقوت‏؟‏، ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر، وهو قول ابن حبيب لقوله سبحانه وتعالى ‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات‏}‏ الآية، ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف‏.‏ واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة‏؟‏ فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك، ومنع ذلك أهل الظاهر‏.‏ والسبب في اختلافهم اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة بن جندب أنه قال ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع‏"‏ وفيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ‏"‏أد زكاة البر‏"‏‏.‏ وأما القياس الذي اعتمده الجمهور فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني الحرث والماشية والذهب والفضة‏.‏ وزعم الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة، أعني إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه، وفيه ضعف‏.‏

‏(‏ الجملة الثالثة‏)‏ وأما معرفة النصاب في واحد واحد من هذه الأموال المزكاة، وهو المقدار الذي فيه تجب الزكاة فيما له منها نصاب، ومعرفة الواجب من ذلك، أعني في عينه وقدره، فإنا نذكر من ذلك ما اتفقوا عليه واختلفوا فيه في جنس جنس من هذه الأجناس المتفق عليها والمختلف فيها عند الذين اتفقوا عليه، ولنجعل الكلام في ذلك في فصول‏:‏ الفصل الأول‏:‏ في الذهب والفضة‏.‏ الثاني‏:‏ في الإبل‏.‏ الثالث‏:‏ في الغنم‏.‏ الرابع‏:‏ في البقر‏.‏ الخامس‏:‏ في النبات‏.‏ السادس‏:‏ في العروض‏.‏